غزلان ومقابر في "تيدره"... نقطة انطلاق دولة المرابطين

سبت, 2014/06/14 - 16:20

القبور المجهولة والطيور المهاجرة والغزلان البرية، والأسماك النادرة، ونتف من ذكريات وقصص؛ يحكيها رواة قلة ما زالوا على قيد الحياة، هي ما تبقى من قصة تاريخية طويلة، ومؤثرة تمثلها جزيرة "تيدره". غير بعيد من نواكشوط، تنام "تيدره" في سبات أملته الجغرافيا قبل التاريخ، تحولت إلى منطقة تروى عنها القصص والحكايات، وتكتب حولها الدراسات، ويأتي ذكرها في الكتب والأطروحات، بأنها أول أرض اجتمع تحت سمائها مؤسسو دولة، كان لها بعدها في تاريخ المنطقة. هنا تقول أغلب الروايات أنه قبل ألف سنة أسس الداعية القادم من الشمال، عبد الله بن ياسين نواة دولة كانت لها كلمتها حينا من الزمن، حين تخندق حوله أبناء صنهاجة يرسمون ملامح مستقبل جديد مغاير تماما للماضي. مستقبل كان يعيش ويتبلور في دماغ رجل واحد؛ هو الأمير اللمتوني يحيى بن عمر، وما لبث الواحد أن صار ألفا.. وغادر الرعيل الأول من تلامذة بن ياسين رباطَهم. يقف الزائر على أرض جزيرة "تيدره".. ويكثر الخطو عل أن تصادف أقدامه ذرة رمل وطأها المرابطون، يتذكر تلك الدولة التي انطلقت من هذه الجزيرة الصخرية. وكم تستحق مواطئ أقدام أولئك الذين أسسوها أن يخفف الوطء، احتراما لخطاهم في بيئة غير مساعدة. هنا متحف التاريخ والحكايات والبطولات.. تجاوز أثرها جزيرة تيدره، التاريخُ يذكر أن الأمير يوسف بن تاشفين لبى نداء الإخوة في العدوة القصوى، ومد في عمر الإسلام بالأندلس قرونا أربعة. ويذكر أيضا أنه من هذه الجزيرة المنسية دوت في سمع الزمان حماحم خيل وطأت سنابكها من جبال البرانس شمال شبه جزيرة أيبريا، إلى مفازات الصحراء الكبرى في حوض نهر النيجر.  ماذا تبقى من تيدره؟ طيور وظباء ومقابر.. يقف الزائر عند شاهد أحد القبور، يقرأ الفاتحة بخشوع.  الشعور الذي يصاحبه، هو وكأن ذاك القبر يختزن كل حيوات الأسلاف.. مرآة التاريخ تعكس الأحداث : الأمير أبوبكر بن عمر يتنازل ليوسف طواعية في مدينة مراكش، عن الجزء الشمالي من الدولة، ويتفرغ لنشر دين الله في الجنوب قبل أن يباغته سهمُ غادر، لينام قريرَ العين في جبال تكانت. ويرى الزائر فترات المد والجزر في تاريخ البلاد، والزمان القديم لاح شريطا. وكأن كل القرون مجرد ثواني. هنا بعد أفول شمس المرابطين بقرون، جاء الأوربيون؛ البرتغاليون أولا حينما كانوا سادة البحار، فالهولنديون فالإنجليز.. إنها جزيرة متخمة بالماضي.  حاول البرتغاليون تدشين تجارة مثلث النخاسة من هنا. اختطفوا فتيانا من إيمراغن، لكن أحفاد المرابطين ورثوا عن جدودهم بقية نخوة وجلد وقوة. كانت النهاية الدراماتيكية انتحارا جماعيا في عرض المحيط. ومن حينها طلق تجار النخاسة بعد فشل محاولة تجربة شواطئ موريتانيا، لتكون مصدرا لحاجات نهضة أوروبا. هنا واسطة العقد في حوض آركين.. يمنع بتاتا دخول المواشي؛ لكي لا تعكر صفو غزلان البر التي هاجرت إلى أنف البحر. لا يدري الكثيرون سر تسمية آركين بهذا الاسم، وربما لا يعرفون أن دماء عربية تجري في تلك التسمية رغم التحريف. تكسو شواطئ الجزيرة نباتات العرجم الذي يعد غذاءً مفضلا للإبل، قبل أن تمنع الإبل من دخولها، وحرف الأوربيون العرجم حتى صار "آركين". هنا تولى الموريتانيون ممثلين في إمارة الترارزة لعبة شد الحبل مع الأوروبيين.. يتحالفون مع هؤلاء ضد أولئك، قبل أن يعودوا ويناوئونهم تبعا للغة المصالح. وبسبب هذه الشواطئ أوفد الهولنديون سفيرا فوق العادة وكامل السلطة لأمير الترارزة؛ أقام في أرضه عشرين سنة. ومازالت دار الوثائق الهولندية في أمستردام تحتفظ برسالة نادرة وجهها أمير الترارزة إلى ملك الأراضي الواطئة (هولندا). اليوم تنام تيدره كأن لم يكن لها دور الشرارة الأولى في صناعة دولة دخلت التاريخ من باب واسع..سعة الصحراء. وكأن لم تنطلق من هنا رايات المرابطين، التي كانت سيدة قبل أن تبيد. وكأن لم تتكالب القوى القادمة من وراء البحار على الجزيرة اليتيمة. وحدها ظباء تيدره تعرف أنها تعيش بمكان مميز، وربما يكون السياح الوحيدون الذين يزورون تيدره بانتظام هم أسراب الطيور المهاجرة، التي تتخذ منها محطة إقامة موسمية. يقفز الزائر إلى القارب الذي سوف يعيدنا إلى الحاضر بعد سفر في الماضي.. لتبقى العيون محدقة في تاريخ يروى..لكنه لا يعاش.